الصحابة أهدى إلى الحق، ثم رجع وقال في "الجديد": القياس الجلي أولى بالعمل من قوله مع القياس الخفي؛ لأنهم كانوا يحاجون بالقياس حتى قال ابن عباس رضي الله عنه: ألا يتقي الله زيد بن ثابت، يجعل ابن الابن ابنًا ولا يجعل أب الأب أبًا. فإذا لزمهم العمل بالقياس كان لغيرهم ألزم.
وأما ما يستقر به الإجماع فيعتبر بأربعة شروطٍ.
أحدها: العمل باتفاقهم عليه، سواء اقترن بقولهم عمل أو لا. وقال بعض الناس: لابد أن يقترن به عمل؛ لأن العمل تحقيق 124/ أ للقول، وهذا لا وجه له؛ لأن حجج الأقوال أكثر من حجج الأفعال، وإن انفراد كل واحدٍ منهما كان حجة فلا يلزم اجتماعهما إذا لم يختلفا.
فإن تجرد الإجماع في القول عن عمل يوافقه أو يخالفه كان القول إجماعًا، وإن تجرد الإجماع في العمل عن قول يوافقه أو يخالفه كان إجماعًا. ولو أجمعوا على القول واختلفوا في العمل بطل الإجماع إن لم يكن لاختلافهم في العمل تأويل. وإن أجمعوا على العمل واختلفوا في القول بطل الإجماع، ولم يكن لاختلافهم في القول تأويل لما يلزم من اتفاقهم في القول والعمل، فإن جهل الاتفاق والعمل يثبت بذلك إجماع ولا خلاف لترددهما بين اتفاقٍ يكون إجماعًا، وافتراقٍ يكون خلافًا.
والثاني: أن يستديموا ما كانوا عليه من الإجماع ولا يحدث من أحدهم خلاف، فإن خالفهم واحد بعد إجماعهم بطل الإجماع وساغ الخلاف؛ لأنه لما جاز أن يحدث إجماع بعد الخلاف جاز أن يحدث خلافهم بعد الإجماع. وروي أن عليًّا -رضي الله عنه- خالف في بيع أمهات الأولاد بعد إجماعه مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما على أن بيعهن لا يجوز، فبطل بخلافه الإجماع في تحريم بيعهن. وقد قيل: إن رضي الله عنه رجع بعد هذا حين قال له عبيدة السلماني: يا أمير المؤمنين، إن رأيك مع الجماعة أحب إليَّ من رأيك وحدك. فإن كان هذا الرجوع صحيحًا كان تحريم بيعهن إجماعًا.
والثالث: أن ينقرض عصرهم حتى يؤمن حدوث الخلاف بينهم، فإن بقاء العصر ربما أحدث من بعضهم خلافًا كما خالف ابن عباس رضي الله عنهما في العول بعد موت عمر رضي الله عنه، فقيل له: ألا قلته في أيامه؟ فقال: هبته وكان امرءًا مهيبًا. ولا يعتبر في انقراض 124/ ب العصر موت جميع أهله لأن هذا أمر يضيق ولا ينحصر، وقد تتداخل الأعصار ويندرج الناس من حالٍ بعد حالٍ، ويختلفون في الأعمار والآجال، وإنما المعتبر في انقراضه أمران:
أحدهما: أن يستولي على العصر الثاني غير أهل العصر الأول.
والثاني: أن ينقرض فيهم من بقي من أهل العصر الأول؛ وهذا لأن أنس بن مالك وعبد الله بن أبي أوفي رضي الله عنهما عاشا إلى عصر التابعين وطاولوهم فجمعوا بين عصرين، فلم يدل ذلك على بقاء عصر الصحابة فيهم.
ثم إذا كان انقراض العصر شرطًا في استقرار الإجماع فهو معتبر في الأحكام التي لا