إن قصد (بالاجتهاد) العلم صح اجتهاده وإن لم يكن عدلاً، وإن قصد به الحكم والفتيا كانت العدالة شرطاً في نفوذ حكمه وقبول فتياه وإن لم يكن شرطاً في صحة اجتهاده.
وأما المجتهد في حكم خاص فحكمه في صحة اجتهاده معتبر بما يجتهد فيه، فإن كان اجتهاده في القبلة كان الشرط في صحة اجتهاده صحة البصر ومعرفة دلائل القبلة، وإن كان اجتهاده في العدالة والجرح كان صحة اجتهاده معتبر بأسباب الجرح والتعديل، وما يراعى من غلبة أحدهما على الآخر في الصغائر وتغليب الحكم في الكبائر وإن كان اجتهاده في المثل من جزاء الصيد كان صحة اجتهاده معتبراً بمعرفة الأشياء في غير ذي المثل، وعلى هذا. 128/ أ فإذا تقرر ما ذكرنا من شروط الاجتهاد المعتبر في المجتهد، تعلق به فصلان؛ أحدهما: جواز اجتهاد الأنبياء. والثاني: جواز الاجتهاد في زمان الأنبياء. فأما الأول فقد اختلفوا فيه؛ فقيل: لا يجوز للأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم- أن يجتهدوا، ولا لنبينا صلى الله عليه وسلم أن يجتهد لقدرتهم على النص بنزول الوحي، ولهذا توقف في إحرامه حتى نزل الوحي، والوحي ينقسم إلى ما هو قرآن يتلى، وإلى ما لا يتلى، ولهذا قال تعالى: {ومَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى (3) إنْ هُوَ إلاَّ وحْيٌ يُوحَى (4)} النجم: 3، 4.
وظاهر مذهب الشافعي وبه قال الجمهور: يجوز للكل ذلك؛ لأنه لو كان لا يجوز لما أخطأ داود وأصاب سليمان عليهما السلام، وقد قال تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وعِلْمًا} الأنبياء: 79، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم اجتهد في أسارى بدر على ما ذكرنا، وقال لعمر رضي الله عنه: "أرأيت لو تمضمضت" حين سأله عن قبلة الصائم هل يفطر أم لا. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال " من اغتسل من الجنابة خلق الله تعال من كل قطرة تقطر منه ملكاً يتسغفر له إلى يوم القيامي" فقال رجل: يا رسول الله، أنقضي أو طارنا ونؤجر عليها؟ فقال صلى الله عليه وسلم "ثكلتك أمك، حسبتك من فقهاء المدينة، أرأيت لو وضعتها في حرام، أفتحتسبون بالحرام ولا تحتسبون بالحلال" أي تتوقعون المثوبة بالحلال وهذا قياس. وأما توقفه في اللعان وغيره فليعلم هل ينزل عليه نص فلا يجتهد. فإذا ثبت هذا فقد اختلف أصحابنا في وجوبه وجوازه 128/ب على وجهين:
أحداهما: يجوز ولا يجب؛ لأن للأحكام أصلاً هو الكتاب.
والثاني: أنه واجب عليه؛ لأن أحكام الكتاب مأخوذة من سنته إذا خلا منها.
وقال صاحب "الحاوي" "الأصح عندي أنه يجب عليه الاجتهاد في حقوق الآدميين، ويجوز له الاجتهاد في حقوق الله تعالى؛ لأنهم لا يصلون إلى حقوقهم إلا باجتهاده، فلزمه وإن أراد الله تعالى منه الاجتهاد في حقوقه أمره".
ثم إذا اجتهد هل يستنتج الاجتهاد برأيه أو يرجع فيه إلى دلائل الكتاب؟ وجهان:
أحدهما: أنه يرجع في اجتهاده إلى الكتاب؛ لأنه أعلم بمعاني ما خفي منه من