والاجتهاد بغلبة الظن مستعمل مع عدم القياس.
وأما الفصل الثالث فيما يجب بالاجتهاد: فالذي يجب على المجتهد أن يقصد باجتهاده طلب الحق عند الله تعالى، وإصابة العين التي يجتهد فيها، وهذا هو الظاهر من مذهب الشافعي، ويشبه أن يكون من مذهب المزني أن عليه أن يقصد باجتهاده طلب الحق عند نفسه؛ لأن ما عند الله لا يعلم إلا بالنصوص، وعلى كلا المذهبين عليه أن يتوصل باجتهاده إلى طلب الحق وإصابة العين، فيجتمع فيه بين هذين الشرطين.
وقال بعض أهل العراق من الفقهاء والمتكلمين: إن الذي على المجتهد هو الاجتهاد ليعمل بما يؤدي إليه اجتهاده، فيجعلون عليه الاجتهاد ولا يجعلون عليه طلب الحق بالاجتهاد، ويقال: إنه مذهب أبي يوسف.
وأما أبو حنيفة رحمه الله فقيل: مذهبه فيه مختلف، فيجعل عليه في بعض الأحكام طلب الحق بالاجتهاد كقولنا، ويجعل عليه في بعض الأحكام الاجتهاد ليعمل بما يؤدي إليه اجتهاده كقول أبي يوسف. وقد اختلطت مذاهب الناس في هذا حتى التبست واشتبهت.
واستدل من أوجب عليه الاجتهاد دون طلب الحق بالاجتهاد 132/ أ وهو مذهب من جعل عليه الاجتهاد بغير أصل، بأن ما أخفاه الله تعالى لا طريق لنا إلى إظهاره، وفي التزامه تكليف ما خرج عن القدرة كاختراع الأجسام وقلب الأعيان، وهذا غلط؛ لأن الاجتهاد واستدلال الحكم هو الحق المطلوب به، فلم يجز أن يختص الوجوب بالاستدلال دون الحكم المطلوب؛ لأن الاستدلال مقصود بمدلول عليه، وقد نصب الله تعالى على ما أخفاه أمارات توصل إليه فلم يخرج عن الاستطاعة.
وأما الفصل الرابع في حكم الاجتهاد: فلا يخلو حال الحكم المجتهد فيه من أن يتفق عليه أقاويل المجتهدين أو تختلف. فإن اتفق صار إجماعاً تعين فيه الحق وسقط فيه الاجتهاد من بعده، كسقوط الاجتهاد مع نصوص الكتاب والسنة؛ لأن الإجماع حجة ناطقة بعد الكتاب والسنة. وإن اختلفت أقاويل المجتهدين فهو على ضربين:
أحدهما: أن يكون الاختلاف في أصول التوحيد وصفات الذات، فالحق فيها في واحد، وهو الذي كلف العباد طلبه وما عداه باطل، فمن أصابه فقد أصاب عند الله وأصاب الحق، ومن أخطأه فقد أخطأ عند الله وأخطأ في الحق. وقال عبيد الله العنبري: كل مجتهد مصيب في الأصول، وهذا خطأ فأحسن؛ لأن أصول التوحيد وصفات الذات لا تختلف فلا يجوز الاختلاف فيها، وأحكام الشرع قد تختلف بحسب المصالح في الأعيان والأزمان، فجاز أن يكون الاختلاف مسوغاً فيها.
والضرب الثاني: الاختلاف في الأحكام الشرعية كاختلاف الصحابة- رضي الله عنهم- في أحكام الصلاة، والزكاة، والصيام، ومقاسمة الإخوة للجد، فذهب الأكثرون إلى أن الحق في جميعها، وأ، كل مجتهد مصيب فيها عند الله تعالى، ومصيب في الحكم؛ 132/ب لأن جواز اختلاف الجميع دليل على صحة الجميع، وهو قول أبي