أن يبعث من جهة نفسه شرعًا غير شرع محمد- صل الله عليه وسلم- ولأن القياس حجة شرعية فلا يجوز تركه بالاستحسان؛ لأنه يجوز تخصيص العموم به دون الاستحسان فلا يترك به.
واعلم أن أصحاب أبي حنيفة- رحمه الله- اختلفوا في بيان مذهبه, فقال بعضهم هو العمل بأقوى القياسين, وهذا فيما نوافقه عليه؛ لأنه الأحسن والاستحسان الذي أوجبه أصول الأصول واقترن بها استحسان العقول حجة يتفق عليها يلزم العمل بها.
وقال بعضهم: هو القول بتخصيص العلة كما خصَّ خروج الجص والنورة من علة الربا في البر وإن كان مكيلًا, وهذا أصل نخالفه فيه. وقال بعضهم: هو أن يترك أقوى القياسين بأضعفهما إذا كان حسنًا.
وقال في شهود الزوايا: القياس أن لا يحد ولكن آخذه استحسانًا, وهذا نخالفه فيه؛ لان أقوى القياسين عندنا أحسن من أضعفهما, ولان في مسألة شهود الزوايا لا قياس أصلًا ولا خبرًا, وأنكر أصحابه ما حكى الشافعي عنه.
فإن قال قائل: قال الشافعي بالاستحسان في مسائل, فإنه قال في المتعة: استحسن بقدر ثلاثين درهمًا, وقال في الأذان: وحسن أن يضع إصبعه في أذنه وقال: "وإرسال ابن المسيب عندنا حسن" قلنا: هذا كله استحسان بدليلٍ, وإنما أنكر الشافعي الاستحسان من غير دليلٍ.
فأما تقدير المتعة بثلاثين درهمًا فقد رواه عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- فاستحسنه للأثر فيه, واستحسن التحليف على المصحف تغليظًا لليمين كما غلظت في الموضع الشريف والوقت الشريف, واستحسن في مدة المتعة بثلاثة أيامٍ؛ لأنها مدة مضروبة في خيار الشرط, 150/ أ وفي مقام المسافر, وفي أكثر مدة المسح مع قوله: تمتعوا في داركم ثلاثة أيام {بعد أن توعدهم بعذاب قريب, فدل أن الثلاث في حد القريب. واستحسن إرسال ابن المسيب؛ لأنه لا يرسل إلا عن صحابي, فصح ما ذكرنا والله أعلم.
واعلم أن الاستحسان بغير دليلٍ ما قاله أبو حنيفة: لو نذر أن يتصدق بماله يلزم أن يتصدق بالمال الذي تجب الزكاة في عينه دون سائر الأموال استحسانًا. وقال: استمساح الخف يجوز استحسانًا.
مسألة: قَالَ: "وَالْقِيَاسُ قِيَاسَانِ".
الفصل
جملة هذا أن القياس, عندنا حجة شرعية يجب العمل بها والمصير إليها. واختلف أصحابنا في ترتيب أنواع القياس, فمنهم من قال: القياس على ثلاثة أضرب؛ جلي,