والثاني: أنه فعله مع علمه بحظره لكن دعته الضرورة إليه لمصلحة وقته في حسم القتال؛ لأنه كان في ألف وأربعمائة من أصحابه، وكان المشركون نحو أربعة آلاف، وقد يفعل في الاضطرار ما لا يجوز أن يفعل في الاختيار، فلما زالت ضرورته منع منه.
والثالث: أنه قد كان مباحًا في صدر الإسلام أن تقر المسلمة على نكاح كافر، ولذلك أقر رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته زينب على نكاح أبي العاص بن الربيع، وكان على كفره إلي أنت انتزعها منه حتى أسلم، ثم ردها عليه، فلذلك شرط رد من أسلم من نسائهم عليهم، ثرم حرم الله تعالى ذلك، ونسخه، فامتنع منه وأبطل شرطه فيه.
فإن قيل: فمذهبكم أنه لا يجوز أن ننسخ السنة إلا السنة، والقرآن إلا القرآن فكيف ننسخ السنة هاهنا بالقرآن.
قيل: أما نسخ القرآن بالسنة، فلا يختلف مذهبنا أنه لا يجوز وأما نسخ السنة بالقرآن، فقد اختلف أصحابنا فيه على وجهين:
أحدهما: وهو مذهب ابن سريج أنه يجوز أن ننسخ السنة بالقرآن فعلى هذا سقط السؤال.
والثاني: وهو الظاهر من مذهب الشافعي، وهو قول جمهور أصحابه أنه لا يجوز نسخ السنة بالقرآن، كما لا يجوز نسخ القرآن بالسنة، فعلى هذا عن هذا النسخ جوابان:
أحدهما: أنه قد كان مستباحًا بعموم ما نزل من القرآن في إباحة النكاح، ثم نسخ ذلك بتخصيص العموم، فكان نسخ القرآن بقرآن.
والثاني: أنه قد كان مستباحًا بالسنة ثم نسخته السنة بما روي من إبطال الشرط في هدنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فصل:
فأما حكم الشرط في هدنة من بعده من أئمة الأعصار، فلا يجوز أن يهادنوا على رد من أسلم من نسائهم بحال، ولئن فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قدمناه من الاختلاف في هدنته، فقد كان قبل الاستقرار الشرط في حظر الرد، قد استقر منه ما لا جوز خلافه.
فأما الشرط رد من أسلم من الرجال، فمعتبر بأحوالهم عند قومهم، وفي عشائرهم، إذا رجعوا إليهم، فإن كانوا مستذلين فيهم ليس لهم عشيرة تكف الأذى عنهم، وطلبوهم ليعذبوهم، ويفتنوهم عن دينهم كما كانت قريش تعذب بلالًا، وعمارًا وغيرهما من المستضعفين بمكة، لم يجز ردهم عليهم، وكان الشرط في ردهم باطلًا، كما بطل في رد النساء حقنًا لدمائهم، وكفا عن تعذيبهم واستذلالهم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أن الله حرم من