ومعلوم من عادات الناس أجمعين أن وعيدهم يكون باتا ووعيدهم معلقا، فمن قال عنهم لغيره: لأعطينك كذا، لم يقله على خيار، ومن قال: لاضربنك قاله على خيار. وذلك لأنهم يعلمون أن الإحسان والعفو أولى بالمدح من العقاب والمؤاخذة، فإن العقاب ينزع إلى استيفاء الحق والعفو ينزع إلى التصديق بالحق.
ولا يخفى بعد ما بين الأمرين. وتفاوت ما بين الفعلين. فمن وعد آخر خيرا فمنحه كان تاركا للفضل إلى ما لا فضل منه. ومن يرعد آخر بشر فلم يفعله، كان تاركا لما لا فضل فيه إلى ما هو الفضل.
وإذا كان كذلك صح أن الوعد يصدر من صاحبه باتا، لأنه يريد الإحسان الذي هو سبب المدح والثناء عليه في الدنيا وسبب المثوبة في الآخرة، فلا يليق الخيار بكلامه الذي كان لهم في تخاطبهم.
وإذا كان خطابه لهم فيما تختلف فيه عادتهم وعادة غيرهم بحسن عادتهم وإن الوعيد يصدر معلقا، لأن الوعد قد يرى أن يدع غير الفض إلى الفضل، فلا يليق مع هذا بوعيده الثبات، بل يكون المعلق أولى به، فيكون عند قوله: لأفعلن بك كذا وكذا، كأنه يصر على الاستثناء فوصله به. وقال: إلا أن يشفع شافع، أو إن شئت.
وإذا كان هذا عادة الناس في وعدهم ووعيدهم، وجب أن يكونوا من الله تعالى محمولين على قبضته، العادة المعروفة التي نزل القرآن بها بين ظهرانيهم، ووقع الخطاب به لهم، فيصير الوعد كأنه نص على بته، والوعيد كأنه نص على تعلقيه، فلا ينقلب الوعيد بالعفو كذبا وبالله التوفيق.
فإن قيل: لو كان هذا هكذا، لوجب أن أحلف الرجل: ليضربن عبده اليوم مائة، ثم عفا عنه ولم يضربه حتى انقضى اليوم، أن لا يجيب، لأنه لو صرح فقال: لأضربنه اليوم إلا إن شاء العفو عنه فعفا عنه ولم يضربه حتى انقضى اليوم ولم يحنث، قيل: إنما حنث لأن كلامه يحمل على التعليق الذي ذكرنا إذا صدر منه مطلقا، فلم يظهر لنا أنه أراد خلاف ما هو العادة في مثله.
وأما إذا أكد وعيده باليمين التي يراد بها في العادات أيضا تأكيدا للأمر المحلوف عليه، والاحتراز من وقوع الحلف منه كان البت أغلب عليه وأولى بظاهره من التعليق وصار