وَأَصْبَحَ مِنَ الْغَدِ مَعْصُوبًا رَأْسُهُ فَخَرَجَ الْقَوْمُ لِعِيدِهِمْ وَلَمْ يَتَخَلَّفْ أَحَدٌ غَيْرُهُ فَقَالَ: أَمَا واللَّه لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ، وَسَمِعَ رَجُلٌ مِنْهُمْ هَذَا الْقَوْلَ فَحَفِظَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ أَخْبَرَ غَيْرَهُ وَانْتَشَرَ ذَلِكَ فِي جَمَاعَةٍ فَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ وَاعْلَمْ أَنَّ كِلَا الْوَجْهَيْنِ مُمْكِنٌ. ثُمَّ تَمَامُ الْقِصَّةِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا دَخَلَ بَيْتَ الْأَصْنَامِ وَجَدَ سَبْعِينَ صَنَمًا مُصْطَفَّةً، وَثَمَّ صَنَمٌ عَظِيمٌ مُسْتَقْبِلٌ الْبَابَ وَكَانَ مِنْ ذَهَبٍ وَكَانَ فِي عَيْنَيْهِ جَوْهَرَتَانِ تُضِيئَانِ بِاللَّيْلِ، فَكَسَرَهَا كُلَّهَا بِفَأْسٍ فِي يَدِهِ حَتَّى لَمْ يُبْقِ إِلَّا الْكَبِيرَ، ثُمَّ عَلَّقَ الْفَأْسَ فِي عُنُقِهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنْ قِيلَ لِمَ قَالَ: فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً وَهَذَا جَمْعٌ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالنَّاسِ، جَوَابُهُ: مِنْ حَيْثُ اعْتَقَدُوا فِيهَا أَنَّهَا كَالنَّاسِ فِي أَنَّهَا تُعَظَّمُ وَيُتَقَرَّبُ إِلَيْهَا، وَلَعَلَّ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهَا تَضُرُّ وَتَنْفَعُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : جُذَاذًا قِطَعًا مِنَ الْجَذِّ وَهُوَ الْقَطْعُ، وَقُرِئَ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ وَقُرِئَ جُذَاذًا جَمْعَ جذيذ وجذاذا جَمْعَ جُذَّةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنْ قِيلَ مَا مَعْنَى: إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ قُلْنَا: يُحْتَمَلُ الْكَبِيرُ فِي الْخِلْقَةِ وَيُحْتَمَلُ فِي التَّعْظِيمِ وَيُحْتَمَلُ فِي الْأَمْرَيْنِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ فَيُحْتَمَلُ رُجُوعُهُمْ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيُحْتَمَلُ رُجُوعُهُمْ إِلَى الْكَبِيرِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَتَقْرِيرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى مَقَالَةِ إِبْرَاهِيمَ وَيَعْدِلُونَ عَنِ الْبَاطِلِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إِلَّا إِلَيْهِ لِمَا تَسَامَعُوهُ مِنْ إِنْكَارِهِ لِدِينِهِمْ وَسَبِّهِ لِآلِهَتِهِمْ فَبَكَّتَهُمْ بِمَا أَجَابَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ الْأَنْبِيَاءِ: 63 أَمَّا إِذَا قُلْنَا:
الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْكَبِيرِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْنَى لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ كَمَا يُرْجَعُ إِلَى الْعَالِمِ فِي حَلِّ الْمُشْكِلَاتِ فَيَقُولُونَ مَا لِهَؤُلَاءِ مَكْسُورَةً وَمَا لَكَ صَحِيحًا وَالْفَأْسُ عَلَى عَاتِقِكَ. وَهَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى كَثْرَةِ جَهَالَاتِهِمْ فَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِيهَا أَنَّهَا تُجِيبُ وَتَتَكَلَّمُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ اسْتِهْزَاءً بِهِمْ، وَإِنَّ قِيَاسَ حَالِ مَنْ يُسْجَدُ لَهُ وَيُؤَهَّلُ لِلْعِبَادَةِ أَنْ يُرْجَعَ إِلَيْهِ فِي حَلِّ الْمُشْكِلَاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِنْ قِيلَ أُولَئِكَ الْأَقْوَامُ إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ كَانُوا عُقَلَاءَ أَوْ مَا كَانُوا عُقَلَاءَ. فَإِنْ كَانُوا عُقَلَاءَ وَجَبَ أَنْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ تِلْكَ الْأَصْنَامَ لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، فَأَيُّ حَاجَةٍ فِي إِثْبَاتِ ذَلِكَ إِلَى كَسْرِهَا؟ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: الْقَوْمُ كَانُوا يُعَظِّمُونَهَا كَمَا يُعَظِّمُ الْوَاحِدُ مِنَّا الْمُصْحَفَ وَالْمَسْجِدَ وَالْمِحْرَابَ، وَكَسْرُهَا لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِهَا مُعَظَّمَةً مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُمْ مَا كَانُوا عُقَلَاءَ وَجَبَ أَنْ لَا تَحْسُنَ الْمُنَاظَرَةُ مَعَهُمْ وَلَا بَعْثَةُ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ. الْجَوَابُ: أَنَّهُمْ كَانُوا عُقَلَاءَ وَكَانُوا عَالِمِينَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهَا جَمَادَاتٌ وَلَكِنْ لَعَلَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِيهَا أَنَّهَا تَمَاثِيلُ الْكَوَاكِبِ وَأَنَّهَا طَلْسَمَاتٌ مَوْضُوعَةٌ بِحَيْثُ إِنَّ كُلَّ مَنْ عَبَدَهَا انْتَفَعَ بِهَا وَكُلَّ مَنِ اسْتَخَفَّ بِهَا نَالَهُ مِنْهَا ضَرَرٌ شَدِيدٌ، ثُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَسَرَهَا مَعَ أَنَّهُ مَا نَالَهُ مِنْهَا الْبَتَّةَ ضَرَرٌ فَكَانَ فِعْلُهُ دَالًّا عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِهِمْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ أَيْ أَنَّ مَنْ فَعَلَ هَذَا الْكَسْرَ وَالْحَطْمَ