ثم نفخت فيه الروح، فصار حيا عالما مذكوراً بالخيرة مخاطبا، والعربُ
تقول: كم أتى عليك من دهرٍ وزمانٍ لم تكن فيه شيئا تعني بذلك أنّك لم
تكن مقدَّراً فيها إنسانا يُذْكر، وممن يُفكر فيك وتَخْطرُ على بال، وإن كان قد كان شخصا ماثلاً وشيئا ثابتا.
فأمَّا تعلقهم بقولي: (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى) .
و (وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) ، وأمثاله، فإنّما عنى به
سبحانه أنّهم من شدةِ الخوف والفَزَع بمثابة السكران والثَّمِل وما هم مع ذلك
بسكارى، أي هم عقلاءُ عالمون بما يَنَالُهم، والعربُ تقول: فلان قد أسْكَره
الجوعُ والعطش، وأسْكَره المالُ والغمر، أي: جعله بمثابة السكران وإن كان
عاقلاً مميزاً، وقولُه: (وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) ، أي: كأنهم ينظُرون إليك.
وهم لا يَنْظُرون، يعني به أمثلة العيون من الأصنام وضَرْبُه مثلاً لمن يَسْمع
ولا يَعْقل ولا يَنْتفع ويُبْصر ولا يَسْتدلُّ، ولا يَعْتبر على ما قلناه من قبل.
وأمَّا تعلُّقهم بقوله تعالى: (فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ) .
وقوله: (تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ) ، وأن ذلك متناقضٌ لأنّ الجان صغيرُ الحيات
والثعبانُ كبيرُها، فإنه باطلٌ لأنه قال: (فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ) ثم قال: (تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ) ، فقال: كانت مع كِبرَها وعِظَمها تهتزُ وتُسْرع في المشي والتلوي والتثني اهتزازَ الجانّ الصغير، وهذا غايةُ الهَول من منظرِها وإظهار الآية والأعجوبة فيها، ولم يقل فإذا هي جانٌ فيكون ذلك نقيضَ قوله، فإذا هي ثعبان مبين، وإنما قال (تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ) فبطلَ ما ظنوه.
فأمَّا تعلُّقهم بقوله تعالى: (وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ) ، وقولهم: كيف أدخلَ "قَبلَ" مرتين وما معنى هذا
الكلام، فإنّه أيضا لا تعلُّق فيه، لأنه يجوز أن تكون (قبل" الثاني لغير ما وردَ