له "قبل" الأول، لأنه قال: (وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ) ، يعني قبلَ
إنزالِ العذابِ عليهم، وما أنزلَه فيكون (قبل) ها هنا قبل إنزال العذاب عليهم وما أنزله، فتكون قبل ها هنا قبل إنزال، ثم قال: من قبله، أي من قبل رُؤْيتِه، والنظَر إليه، فيكون "قبل" الثاني وارد بغير ما وَردَ له الأول، فالأول قبلَ إنزالِ ما أُنزل و "قبل" الثاني قبلَ النظَر، وقد يجوز أيضا أن يكون ذِكْرُ قبل مرتين على وجه التأكيد وعلى مثال قولهم: عجل عجل، واضْرِب
اضْرِب، والأسَد الأسَد، ونحوه قال الشاعر:
يَرمْي بها من فَوقِ فَوقِ وماؤُه ... من تحتِ تحتِ شُربه يتغلغلُ
فأما تعلقهم بقوله تعالى: (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ) ، وقولهم: هذا قول دهريةِ جحدة، فكيف يُقرُّون
بالحياة بعدَ الموت، وهم يستجهلون معتقِدِ ذلك فإنه لا تعلُّق أيضا فيه من
وجهين:
أحدهما: أنهم قالوا ذلك على وجه التقديم بما هو مؤخر عندهم
فكأنهم قالوا: ما هي إلا حياتنا الدنيا نحيا ونموت، فقالوا مكان ذلك
نموت ونحيا، كما تقول العربُ شربتُ وأكلت، والأكلُ قبلَ الشرب، يعنون أكلتُ وشربت، وكذلك قولهم: نروحُ ونغدوا، والغدُوُّ قبلَ الرواح.
والوجهُ الآخر: أنَّهم لم يريدوا بذلك أنفسَهم فقط، بل عَنَوا به جِنْسَ
الناس، فقالوا: ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت، ويحيا قوم بعدنا من نَسْلنا.
ويموتُ أولئك ويجيءُ بعدَهُم آخرون، وأن أهلَ الدنيا لا يَنْفكُون من موتِ
وحياة، ولا حياةَ ولا موتَ في دارِ غيرها فأكَذْبَهمُ اللهُ تعالى في ذلك.
وقال: إن ذلك ظن منهم وتوهمم وأخبرَ به في غير موضعٍ فبطل ما قدروه.