سورة الأعراف ٧: ١٧٩
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}:
{وَلَقَدْ}: الواو: استئنافية.
{وَلَقَدْ}: اللام: للتوكيد، قد للتوكيد أيضاً، والتحقيق.
{ذَرَأْنَا}: ذرأ: بث، ونشر، والبث في الأرض معناه: نشرهم في الأرض بالتكاثر بالتزاوج.
{ذَرَأْنَا}: يعني: خلقنا خلقاً؛ يتكاثر بذاته.
{لِجَهَنَّمَ}: اللام: لام التعليل، لام العاقبة، أو الصيرورة، جهنم: مشتقة من الجهومة: وهي الشيء المخوف الكريه المنظر، وقيل: بعيدة القعر. ارجع إلى سورة الرعد آية (١٨) للبيان المفصل.
{كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ}: خلقنا لجهنم كثيراً من الجن، والإنس.
والسؤال هنا: إذا كان الله سبحانه ذرأ لجهنم كثيراً من الجن، والإنس، فما هو ذنبهم، أو مصيبتهم؛ ليعذبهم فيها؟
الجواب: ما هي علّة خلقهم: هي قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} الذاريات: ٥٦.
إذن علَّة الخلق: هي عبادة الله تعالى وطاعته، وليس دخولهم جهنم.
فبعد الذرء، فمن الجن والإنس من استجاب، وعبد الله -جل وعلا- ، وأطاعه؛ فهؤلاء مصيرهم إلى الجنة؛ لأنهم اختاروا لأنفسهم طريق الحق، والنجاة، ومن الجن والإنس من رفض، وانكر وجود الخالق، وطاعته، وعبادته؛ فهؤلاء مصيرهم إلى جهنم؛ لأنهم اختاروا لأنفسهم طريق الهلاك، وانتبه إلى قوله سبحانه: {كَثِيرًا}، ولم يقل: قليلاً، فيا ويلتاه! ويا حسرة على العباد!
وقد وصف هؤلاء الذين اختاروا طريق جهنم من الجن والإنس بثلاث صفات، وقدَّم الجن على الإنس؛ للترتيب الزمني؛ فالجن كانوا أسبق خلْقاً.
{لَهُمْ}: اللام: لام الاختصاص، ثم وصفهم بثلاث صفات:
الأولى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا}: الفقه: هو الفهم، واصطلاحاً: هو معرفة الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية القرآن والسنة والإجماع والقياس وغيرها؛ ارجع إلى سورة النساء آية (٧٨) لمزيد من البيان، ولنعلم أن القلب ليس القلب هو مضخة للدم فقط، بل وجدوا في القلب خلايا عصبية تحمل صفات الخلايا العصبية في الدماغ المختصة بوظيفة الذاكرة، والعاطفة، والإدراك، وهذا يؤكد على القلب هو مركز للأحاسيس، والمشاعر، والإيمان، والكفر، والحب، والكره… وغيرها.
وهذا يفسر لنا كيف يكتسب الذي زُرِعَ له قلب بعض صفات المتبرِّع من الحب، أو الكراهية لبعض الأشياء، أو يحدث تغيُّر في بعض أخلاق الذي زُرِعَ له القلب ومعاملاته.
{لَهُمْ قُلُوبٌ}: والقلب له علاقة بالدماغ محل الإدراك، فمن دون القلب لا يعمل الدماغ، وعقول، أو مناطق الإدراك، والفهم عندهم معطلة، فهي لا تستجيب، ولا تنتفع بآيات الله تعالى وبما جاء على ألسنة رسله من الحق.
والثانية: {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا}: أعين: جمع عين، وعين تجمع على أعين وعيون؛ أعين: تعني التي نبصر بها، أو قد تعني البصيرة، أما عيون: فلا تعني إلا عيون الماء مثل عيون الجنة, مثل قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} الذاريات: ١٥؛ أيْ: لا ينظرون نظر البصيرة، نظرة تبصُّر، واعتبار؛ فهم لا ينتفعون بأعينهم ولا يرون الحق.
والثالثة: {وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا}: وكذلك لا يسمعون سماع تدبُّر، وإصغاء، ولا ينتفعون بسمعهم، أو آذانهم.
{أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}:
{أُولَئِكَ}: اسم إشارة، واللام: للبعد، ويفيد الذمَّ.
{كَالْأَنْعَامِ}: الكاف: كاف التشبيه؛ كالأنعام: وهي البقر، والغنم، والإبل، والمعز، إذا لم يستخدموا عقولهم، وسمعهم، وأبصارهم، ويتجنبوا الكفر، والشرك، ويختاروا طريق النجاة، والهدى؛ فهم كالأنعام حين لا ينظرون في عواقب الأمور، وما يعملون في دنياهم، ثم يستمرون في غفلتهم.
ولنعلم: أن الأنعام، والنباتات، والجمادات كلها تسجد، وتسبح لله بطريقتها الخاصَّة، وأن الأنعام غير مكلَّفة، ولم تحمل الأمانة، وأدوات إدراكها؛ مثل: العقل، والعين، والأذن معدَّة لما خُلقت له من وظيفة (التسخير).
وهي من آيات الله سبحانه تعمل بما أودع الله سبحانه فيها من أجهزة خاصَّةً؛ كي تكون مسخرة لبني آدم.
{بَلْ هُمْ أَضَلُّ}: بل: للإضراب الإبطالي؛ أيْ: ليسوا كالأنعام، بل هم أضل من الأنعام؛ لأن الأنعام تقوم بما أمرها الله به، ومحكومة بالغريزة، ولا اختيار لها في شيء، والأنعام تعرف ربها، وتسجد له، ولا يبلغ مواقع بها الضلال أن تقع في الهلاك أو الموت كما هم يفعلون، وهم لا يعرفون ربهم، وينكرونه؛ فهم أضل من الأنعام؛ أيْ: أسوأ.
{أُولَئِكَ}: اسم إشارة.
{هُمُ}: ضمير منفصل؛ يفيد المبالغة؛ أيْ: إن كان هناك غافلون على الأرض؛ فهم أغفلهم حقاً.
{الْغَافِلُونَ}: جمع غافل: وهو الذي لا يحضر في باله الشيء، أو انمحى عن ذاكرته الشيء، فلم يعد يذكرون آخرتهم، ويستعدون لها.
{الْغَافِلُونَ}: لما نسوا ذكر ربهم، وتركوا الإيمان، والتدبُّر في كتاب الله، كانوا بمنزلة الغافلين. ارجع إلى سورة البقرة، آية (٧٤)؛ لمزيد من البيان.