إنما هو للتشريف، وقدم الأشرف فالأشرف. فإن قلت: فقد جرى تقديم نوح مع أنه ليس بأفضل من محمد صلى الله عليه وسلم في قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً} (١).
قلت: سياق تلك (١٨٩ /أ) الآية مخالف لهذا السياق؛ لأنهم اتبعوا الدين الحق؛ لقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً} ثم قال: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (٢) فكأنه قال: شرع لكم الدين الأصيل الذي بعث عليه نوحا في العهد القديم، وبعث عليه محمد خاتم الأنبياء في العهد الحديث، وبعث عليه من توسطهما من الأنبياء والمشاهير. قوله: {وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً} ليس المراد منه أخذ ميثاقا آخر؛ بل هو هو، والتقدير: وأخذنا منهم بأخذ العهد ميثاقا غليظا.
{لِيَسْئَلَ الصّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩)}
قوله: {وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ} معطوف على قوله: {وَإِذْ أَخَذْنا،} والتقدير: وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم، وأعتدنا للكافرين عذابا أليما. {اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ} يوم الأحزاب وهو يوم الخندق. {إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ} وهم الأحزاب فأرسل الله عليهم ريح الصبا؛ قال صلى الله عليه وسلم:
"نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور" (٣). {وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها} وهم الملائكة، وكانوا ألفا فبعث الله عليهم ريحا باردة في ليلة شاتية، فاشتد عليهم البرد، وسفت عليهم الريح التراب في وجوههم، وأمر الملائكة فاقتلعت الأوتاد، وقطعت الأطناب (٤) وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وماجت (٥) الخيل بعضها في بعض، وقذف الله في قلوبهم الرعب،
(١) سورة الشورى، الآية (١٣).
(٢) سورة الشورى، الآية (١٣).
(٣) رواه البخاري رقم (٣٣٤٣، ٣٢٠٥٠، ١٠٣٥)، ومسلم رقم (٩٠٠)، وأحمد في المسند (١/ ٣٢٤)، وابن حبان رقم (٦٤٢١)، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(٤) الأطناب: ما يشد به البيت من الحبال بين الأرض والطرائق (ابن سيده). الطنب: حبل طويل يشد به البيت والسرادق بين الأرض والطرائق، وقيل: هو الوتد والجمع أطناب وطنبة. ينظر: لسان العرب (طنب).
(٥) ماج البحر يموج موجا وموجانا ومؤوجا وتموج اضطربت أمواجه وموج كل شيء وموجانه اضطرابه وماج الناس دخل بعضهم في بعض. ينظر: لسان العرب (موج).