قال: ألا قلت لى فى الحال، فكنت أذاكره غير تلك المذاكرة، هذا رجل مشهور بالحفظ، والاتّساع فى صنوف العلوم، وما ذاكرته بحسبها.
قال: ومضت على هذا مدّة، فحضرنا فى جنازة أخرى، وجلسنا، فإذا بالطّبرىّ قد أقبل، فقلت له قليلا قليلا: هذا أبو جعفر الطّبرىّ قد جاء مقبلا.
قال: فأوما إليه بالجلوس عنده، فأوسعت له حتى جلس إلى جنبه، وأخذ أبى يحادثه، فلما جاء إلى قصيدة ذكر الطّبرىّ منها أبياتا، قال أبى: هاتها يا أبا جعفر إلى آخرها.
فيتلعثم الطّبرىّ، فينشدها أبى إلى آخرها.
وكلّما ذكر أشياء من السّير، قال أبى: كان هذا فى قصّة فلان، ويوم بنى فلان، مرّيا أبا جعفر فيه.
فربمّا مرّ، وربّما تلعثم، فيمرّ أبى فى جميعه.
قال: فما سكت أبى يومه ذلك إلى الظهر، وبان للحاضرين تقصير الطّبرىّ عنه، ثم قمنا، فقال لى أبى: الآن شفيت صدرى.
وعن أبى بكر ابن الأنبارىّ، أنه كان يقول: ما رأيت صاحب طيلسان أنحى من القاضى أبى جعفر ابن البهلول.
وكانت وفاته فى شهر ربيع الآخر، من سنة ثمان عشرة وثلاثمائة، بعد أن أريد إلى العود إلى منصب القضاء فامتنع، وقال: أحبّ أن يكون بين الصّرف والقبر فرجة.
قيل له (١): فابذل شيئا، حتى يردّ العمل إلى ابنك.
فقال: ما كنت لأتحمّلها حيّا وميّتا.
وقال فى ذلك (٢):
تركت القضاء لأهل القضاء … وأقبلت أسمو إلى الآخره
(١) زيادة من: ص، على ما فى: ط، ن.
(٢) الأبيات فى: بغية الوعاة ١/ ٢٩٦، معجم الأدباء ٢/ ١٥٦.